top of page
بحث

الهجوم السلمي السعودي: مقاربة استراتيجية لتعزيز الاستقرار الإقليمي

  • صورة الكاتب: sara john
    sara john
  • 5 نوفمبر
  • 5 دقيقة قراءة

ree

المبادرة السعودية لسوريا تتيح مشروعًا يحمل استراتيجية للإقليم ويرسم ملامح جديدة للمنطقة

تُشكِّل السياسة الخارجية السعودية في السنوات الأخيرة نموذجًا جديدًا في مقاربة أزمات الشرق الأوسط، يقوم على تجاوز منطق التدخلات المباشرة والاصطفافات الحادّة، لصالح التهدئة والاستثمار في الاستقرار. وقد بلغ هذا التوجّه ذروته من خلال ما بات يُعرَف بـ«الهجوم السلمي السعودي»، والذي يتجلّى خصوصًا في التعامل مع العديد من الأزمات الإقليمية والدولية، وفي مقدّمتها الأزمة السورية بعد سقوط النظام السابق. فما هو منطق هذا الهجوم السلمي؟ وما أهدافه العميقة؟ وكيف تبدو واقعيًّا تجلّياته في الحالة السورية؟

د. سمير التقي

غير أنّ ما يهمّنا في هذا السياق هو البعد الخارجي للرؤية؛ أي إدراك صانع القرار السعودي أنّ التنمية الشاملة لا يمكن أن تتمّ في فراغ جيوسياسي مضطرب، وأنّ الاستقرار الداخلي محكوم بالاستناد لاستقرار إقليمي مستدام.

من هنا، بدأت تتبلور فكرة «الهجوم السلمي»، أي التحرّك الخارجي المكثّف، سياسيًّا واقتصاديًّا، لنزع فتيل الأزمات المحيطة، وصياغة أطر جديدة للتعاون بين دول المنطقة.

فإذا كانت الرؤية تهدف إلى جعل المملكة مركزًا عاليًا للاستثمار واللوجستيات والسياحة، فلا بدّ من محيط إقليمي خالٍ من النزاعات والاضطرابات. فالأمن في اليمن وسوريا ولبنان والعراق، بل وحتى في السودان، لم يَعُد يُنظَر إليه فقط بوصفه هدفًا إنسانيًّا أو سياسيًّا، بل أصبح شرطًا لتحقيق الرؤية ذاتها. من هذا المنطلق، لا تتعامل السعودية مع الملفات الإقليمية بمنطق الخصومة الصفرية أو التحالفات المغلقة؛ بل إنها تتعامل من منطق الرؤية الذكية طويلة الأمد، التي تسعى لتحقيق توازن المصالح وفتح قنوات التواصل مع دول الإقليم.

أوّلًا: رؤية ٢٠٣٠ كخلفية استراتيجية للهجوم السلمي السعودي

تُعَدّ رؤية السعودية ٢٠٣٠ إحدى أهمّ الخطط التنموية الطموحة في تاريخ المملكة؛ ليست فقط على المستوى الداخلي، بل في أبعادها وتداعياتها الإقليمية والدولية.

جاءت هذه الرؤية تعبيرًا عن وعي عميق بالتحوّلات التي يشهدها العالم، والتحدّيات التي تواجه المنطقة، واستجابةً لحاجة المملكة إلى بناء نموذج تنموي مستدام يُجنِّبها تقلّبات الاقتصاد الريعي، ويؤهّلها لتكون قوة إقليمية فاعلة في ظل بيئة إقليمية متكاملة وسلمية.

تتمثّل ركائز هذه الرؤية في ثلاثة محاور رئيسية: مجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر، ووطن طموح. ويتفرّع كلّ محور منها إلى مشاريع كبرى، بعضها اقتصادي (كخصخصة جزء من أرامكو، وإنشاء مشاريع ضخمة مثل «نيوم»)، وبعضها اجتماعي وثقافي (مثل دعم الفنون، والانفتاح الثقافي)، وبعضها يرتبط بإعادة هيكلة مؤسسات الدولة وإصلاح القطاع العام.

إدراك صانع القرار السعودي أن التنمية الشاملة لا تتم في فراغ جيوسياسي مضطرب والاستقرار الداخلي محكوم بالاستناد لاستقرار إقليمي

انعكس هذا التحول بشكل واضح في شكل مبادرات متتالية، سواء في المصالحة الخليجية ثم تجاه إيران، أو السودان واليمن، أو في التعامل مع القوى الدولية في ملفات مثل أوكرانيا وسوريا.

إن رؤية ٢٠٣٠، باختصار، لا تمثل فقط خطة اقتصادية، بل تعبيرًا عن تصور شامل لهوية المملكة ودورها وموقعها في النظام الدولي. وهي الرؤية التي شكّلت الخلفية النظرية والعملية للهجوم السلمي السعودي، الذي يسعى إلى إعادة صياغة توازنات المنطقة عبر التنمية، لا عبر المواجهة، وعبر المصالح المشتركة، لا عبر الاصطفافات الأيديولوجية.

محوري في فضّ النزاعات في الإقليم والعالم، من خلال اعتماد نهج جديد يقوم على الوساطة والتسويات السياسية بدلًا من الانخراط العسكري المباشر أو التموضع ضمن محاور صلبة.

ظهرت معالم هذا الدور بشكل واضح في عدد من الملفات الساخنة.

في مقدمة هذه الملفات، كانت المصالحة الخليجية التي تُوِّجت بقمة العلا في يناير ٢٠٢١م، التي أعادت اللُّحمة بين دول مجلس التعاون الخليجي بعد سنوات من القطيعة. ثم جاء الاتفاق التاريخي مع إيران في مارس ٢٠٢٣م، بوساطة صينية، ليؤكد أن السعودية باتت تؤمن بجدوى الحوار حتى مع الخصوم التقليديين.

ثانيًا: الدور السعودي في التوسط لفضّ النزاعات في الإقليم

لا تتعامل السعودية مع الملفات الإقليمية بمنطق الخصومة الصفرية أو التحالفات المغلقة، بل بالرؤية الذكية طويلة الأمد لتحقيق توازن المصالح

كما استضافت جدة سلسلة من المفاوضات حول الأزمة السودانية عام 2023، في محاولة لتثبيت الهدنة خلال الصراع الدائر بين الفصائل في السودان، ودعمت المملكة الجهود الإنسانية على المستوى الدولي. شاركت المملكة بفعالية في جهود إنهاء الحرب الأوكرانية، واستضافت قمة جدة في أغسطس 2023، بمشاركة نحو أربعين دولة، من ضمنها دول غربية كبرى كألمانيا وفرنسا، ودول الجنوب كالصين والهند، في إطار محاولات بناء توافق جديد بين الأطراف المتصارعة، وإطلاق ديناميات جديدة من التحالفات الإقليمية والعربية والدولية.

رابعًا: الوساطة السعودية في الشأن السوري بعد سقوط نظام الأسد

مع سقوط النظام السوري السابق في ديسمبر 2012، تحركت المملكة سريعًا لتأكيد حضورها في الملف السوري، ليس باعتبارها طرفًا منحازًا لأي جهة، بل بوصفها راعية محتملة لإعادة سوريا وإعادة تأهيلها. فنيًا وسياسيًا، أعادت وزارة الخارجية السعودية توجيه بوصلة المملكة إلى جانب الحل السياسي، مركّزة على ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، ومساندة مسار اللجنة الدستورية السورية التي رعتها الأمم المتحدة في جنيف. وفي هذا السياق، زار وفد سوري الرياض في فبراير 2023 لمناقشة الملفات الحيوية بين البلدين.

كما دعمت المملكة موقف سوريا في النظام المالي العالمي عبر تسهيل مشاركة دمشق في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وصولًا إلى التعاون مع منظمة الصحة العالمية في برامج إعادة بناء القطاع الصحي السوري. وقد شملت المبادرات السعودية كذلك مكافحة تجارة المخدرات، وتعزيز الاستقرار الاقتصادي، وإعادة هيكلة القطاع الصحي بما يخدم التنمية المستدامة في البلاد.

رابعًا: السياق الجيوسياسي والصراع على سوريا

مع سقوط النظام السابق، لم تكن التدخلات الأجنبية بل تصاعدت حتى أصبحت سوريا ساحة مفتوحة للصراع غير المباشر على النفوذ وعلى الدور فيها. وفي هذا السياق، برزت مطالب عربية بضرورة إعادة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية، وهو ما تحقق لاحقًا ضمن رؤية تسعى إلى فتح قنوات الحوار وتخفيف التوتر الأمني والسياسي في المنطقة.

يمثل هذا الدور السعودي عنصرًا أساسيًا في إعادة بناء الدولة السورية، وتثبيت مفهوم السيادة السورية على أراضيها، من خلال تأكيد الحل السياسي بعيدًا عن منطق المحاور أو الاصطفافات الإقليمية.

خامسًا: التحديات التي تواجه المبادرة السعودية

مما لا شك فيه أن جهود الوساطة السعودية تجد مساراتها كجزءٍ من مواجهة الاضطرابات الداخلية في البلاد. فرغم نشاطات الوضع على غير كبير، تدرك المملكة أن دعم عملية التعافي السوري يستلزم دعمًا سياسيًا ومؤسسيًا واجتماعيًا مستدامًا.

 لا شكّ بالتالي أنّ قمّة جدّة الإقليمية لها مصلحة في نجاح هذا الدور التوفيقي والسلمي السعودي، بل تسعى لمرافقته وإنجاحه. كما يشكّل الخلاف الدولي حول العقوبات على سوريا مصدر قلقٍ وإعاقةٍ لجهود الانفتاح السعودي على هذا الملف؛ إذ ما تزال القيود المالية المفروضة على إعادة الإعمار محدودة الجدوى، قياسًا بحجم الحاجات الضرورية للإنعاش الاقتصادي بعد الدمار.

غير أنّ المقاربة السعودية تتعامل مع هذه التحدّيات بنهجٍ تدريجي، يزاوج بين الدفع نحو الإعمار بما يخدم المصلحة الوطنية، وبين تجنّب خلق صدام مع المنظومة الدولية، بما يسمح بأن يشكّل السوريون جميعًا جزءًا من توازنها، بصورةٍ متدرّجة ومتوازنة.

سادسًا: الفرص والانعكاسات الإقليمية للمقاربة السعودية

من أبرز ما تتيحه المبادرة السعودية استعادة استقطاب الدور العربي في مشروع النهضة في مجمل بلاد الشام، وترسيخ دور المملكة كقوّة ناعمة في المنطقة بأسرها. كما تسمح هذه السياسة بإعادة دفع سوريا في محيطها العربي والدولي، وخلق بيئة تنموية جديدة في المشرق العربي، مع بناء شبكة من المشاريع المعاصرة للتنمية الدولية والإقليمية، والحدّ من الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا، مقابل توسيع الشراكات الإقليمية والدولية على قاعدة المصالح المتبادلة.

وبذلك تفتح المبادرة أفقًا واسعًا لرؤية سعودية استراتيجية شاملة في الملف السوري، تنسجم مع ملامح التحوّل النوعي في دور المملكة وإدارتها للإقليم، وترسم ملامح جديدة للمنطقة. كما أنّ الساحة السورية تشكّل مثالًا واضحًا على أنّ هذه المقاربة تمنع انزلاق البلاد مجدّدًا إلى ساحات صراع إقليمي أو دولي، وتتيح بناء تفاهمات أوسع مع مختلف الأطراف المحلية والخارجية على قاعدة المصالح المشتركة.

وتتطلّب هذه المبادرة التزامًا سوريًا بمشروع إنقاذ وطني؛ فهي لا تعني مجرّد عودة النظام إلى الإقليم شكليًا، بل انخراطًا في رؤية إقليمية تقوم على الشراكات لا على منطق العداء، وعلى التنمية لا على إعادة إنتاج الصراع. ليصبّ نجاح هذا المسار في إعادة تظهير دور المملكة، ليس فقط بوصفها دولةً محوريةً مستقرة، بل كدولة استقرارٍ وصاحبة مشروعٍ حقيقيّ لبناء مستقبلٍ جديد للمنطقة.

 
 
 

تعليقات


© 2020 مجموعة إنسايت الاستشارية

  • LinkedIn Social Icon
  • Twitter Social Icon
bottom of page