top of page
بحث

الحرب في أوجها،لكنها هدنة في لعبة عضّ الأصابع.

  • صورة الكاتب: sara john
    sara john
  • 5 نوفمبر
  • 4 دقيقة قراءة

ree

تتهيّأ واشنطن وبيكين لقمةٍ تعقد في كوريا الجنوبية بين ترامب وشي جين بينغ. تتجه أنظار العالم إلى ما قد يسفر عنه اللقاء من نتائج تعيد رسم ملامح النظام الدولي، أو تُكرّس صراعًا طويل الأمد بين أكبر قوتين اقتصاديتين وعسكريتين. ليس الأمر مجرّد تفاوضٍ على رسومٍ جمركية أو بنودٍ تجارية، بل هو اختبارٌ لتوازنات أعمق، تمسّ الأمن الإقليمي والهيمنة التكنولوجية وشبكات التحالف وقواعد اللعبة الجيوسياسية برمّتها.

يتجاوز الصراع بطبيعته البنيوية مفهوم الأزمةً العابرة. بل انها تزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم، وتتداخل خيوطها في الاقتصاد والتكنولوجيا، وتتشابك حسابات التجارة مع المعادلات الاستراتيجية. على خلاف الصراعات التقليدية، تجري هذه الحرب دون دخان لكنها أشد أثرًا نظرا لطابعها الزاحف، وتداعياتها واختلالاتها العميقة وطويلة الأمد.

الحلقة الرئيسية في هذه المعركة هي الأسواق! لتشمل حلقات الإنتاج والتوزيع: من التجارة والطاقة إلى سلاسل الإمداد، ومن أشباه الموصّلات والحوسبة الكمومية إلى المعادن النادرة الحيوية للصناعات الإلكترونية والدفاعية. وإذ تسعى واشنطن لإعادة تشكيل سلاسلها وتقليل اعتمادها على هيمنة بكين على الموارد، ترى الصين أنّ تحرير تدفقات هذه المواد، ولا سيما المعادن النادرة، جزءٌ رئيسي من أمنها وقوتها التفاوضية.

وبعد، حين كانت العلاقات الأمريكية الصينية تمضي بسلاسةٍ نسبية، كانت مقاربة الزعيم الصيني دينغ شياو بينغ براغماتية فيما يتعلق بخلافات الأراضي مع جيران الصين: "جيلُنا لا يمتلك من الحكمة ما يكفي لحلّ هذه المسألة؛ ولْنَدَعْها للجيل القادم، فهو سيكون أذكى منّا." أمّا اليوم فقد غدت جزيرة تايوان عقدةَ مركزية في التوتر: حيث ترى الولايات المتحدة أنّ مغامرةً صينية هناك ستقوّض مصداقيتها وتحالفاتها شرق آسيا وعبر الهادئ، فيما تعدّها بكين جزءًا من أراضيها، ومنصّةً لإبراز قوتها شرق المحيط الهادئ.

على الصعيد الدولي، يمثل الصراع على الذكاء الكمومي، والبنى التحتية للتحكّم الرقمي، وحوكمة البيانات، معاييرها، الملف الأخطر والأكثر حسماً في السباق المتصاعد للهيمنة على العتاد الرقمي الصلب. حيث يتضاعف التنافس شهرًا بعد شهر، في مناخ من المخاطر والهشاشة الدولية، يصبح التفوّق التقني حاسما بالنسبة للأمن القومي لكل منهما. ورغم ذلك، ثمة أرضيةٌ مشتركة ممكنة بين البلدين تنبع من حاجتهما لوضع قواعد لحوكمة التقنيات الناشئة وتنظيم البنية الرقمية العالمية، بما يدرأ الانزلاق إلى فوضى المعايير وسباقات الحظر المتبادل. ورغم صعوبته الشديدة لكنه قد يكون الفرصة الأجدى التي تتيحها المفاوضات.

على طاولة القوة، تمتلك الولايات المتحدة مزايا حاسمة: تفوّقٌ تكنولوجي نسبي، شبكة تحالفاتٍ واسعة عابرةٍ للقارات، منظومة ابتكارٍ متينة تتكئ على جامعاتٍ وشركاتٍ رأسمالها المعرفي لا يُضاهى، وهيمنةٌ للدولار تمنحها أدوات تأثيرٍ مالية وتنظيمية استثنائية. تُضاف إلى ذلك سوقٌ داخلية عملاقة قادرة على امتصاص الصدمات واستيعاب دورات الاستثمار في التقنيات الباهظة.

لكنّ للصين تمتلك بدورها أوراقاً محورية: تموضعٌ عميق في قلب سلاسل التوريد العالمية، وقدرةٌ على التأثير في مدخلاتٍ حيوية لصناعاتٍ أمريكية عديدة، من المعادن الحرجة إلى مكوّنات الإلكترونيات. كما أنّ اعتماد شرائح من الاقتصاد الأمريكي—ولا سيما المزارعين—على السوق الصينية يمنح بكين مجالًا للمقايضة، بعد أن استثمرت في بدائل توريد في البرازيل وأمريكا الجنوبية. ويُعدّ ملف المعادن النادرة ورقة ضغطٍ فورية حسّاسة؛ فتعطيلها يُلحق أذىً بالغًا بصناعاتٍ متقدمة.

في المقابل، تواجه الصين تحدياتٍ داخليةً جسيمة: أزمة ديموغرافية متفاقمة، تباطؤٌ اقتصادي، وقصورات هيكلية في القطاعين المالي والمصرفي، ما قد يحدّ من قدرتها على تحمّل كلفة المواجهة الطويلة. لا تنفي هذه النفقاط، عناصر القوة الصينية، بل تضبط سقفها، وتُدخل حسابات بكين في إطار «توازن الكلفة والمكسب» على المدى المتوسط والبعيد.

أما في واشنطن، فمع أنّ مصادر القوة وفيرة، تبدو مقاربة إدارة ترامب تجريبية متقلّبة، تمزج بين الرسوم والقيود والصفقات الظرفية وتبدّل الأولويات، على نحوٍ يربك الحلفاء والخصوم معًا. في المقابل، تمنح مركزية القرار في بكين شي جين بينغ قدرةً على التعبئة السريعة واستخدام أدوات الدولة بكفاءةٍ أعلى. ومع ذلك، يلفت خبراء أمريكيون إلى كُلفة المركزية المفرطة وإشارات التباطؤ الاقتصادي والديموغرافي. وفيما لا يواجه شي جينبينغ اختبارًا داخليًا وشيكًا، يبقى ترامب تحت وطأة استحقاقاتٍ انتخابية قريبة قد تؤثر مباشرة في هامش المناورة.

بإمكان واشنطن تنويع مصادر المعادن الحرجة وبناء سلاسل بديلة، وهو مسارٌ لا يحتاج تقنياتٍ خارقة، بقدر ما يتطلب استثماراتٍ وبُنى تحتية تستغرق سنوات—سبعًا على الأقل—حتى تؤتي أُكلها. خلال هذه الفجوة الزمنية، تستطيع بكين الاستفادة من نهج الصفقات القصيرة الذي يفضّله ترامب لتحصيل تنازلاتٍ ملموسة من دون أثمانٍ سياسية عالية. هنا تكمن جاذبية «الهدنة الجمركية» للطرفين: شراء الوقت لإعادة التموضع، لا عقد صفقةٍ نهائية.

يستبعد مركز (CSIS) التوصّل إلى «صفقة كبرى»، لكن الأسواق المالية تفاعلت بنبرة تفاؤلٍ حذر، مع ادراكها لمخاوفها سبق ان خبرتها "”Deja vue. وتشير التقارير للتوصل «لإطار» لخفض التعريفات على بعض السلع، مقابل تخفيف بيكين لقيود تصدير المعادن النادرة. لكن العمل الحقيقي يبدأ بعد القمة: تفاصيل التنفيذ، وآليات التحقّق، وبناء آليات تُحصّن الاتفاقات. فالسؤال الجوهري لصانعي السياسات والشركات والمراقبين ليس: هل ستكون ثمة صفقة؟ بل: ما شكلها؟ وما مدى إلزاميتها؟ وكيف ستُنفَّذ وتُراقَب، وبأيّ من آليات تسوية نزاعات؟

الأرجح إذًا صفقةٌ محدودة لا تقترب من الملفات الشائكة: تايوان، أشباه الموصّلات، معيارية البنى الرقمية ومعركة التفوّق الكمومي. فهذه تحتاج تنازلاتٍ سياسية واستراتيجية باهظة على مصداقية واشنطن تجاه لدى حلفائها، في حين لا تبدو بكين مستعدة لدفع اثمان ثقيلة. وبقدر ما يستبعد الطرفان فشلاً مدويا بقدر ما يستبعدان اختراقًا شاملًا.

تتجاوز نتائج هذه المواجهة العالاقت الثنائية إلى عمق التوازنات الدولية. وفي قلب هذه المعادلة، تقع منطقة الخليج والشرق الأوسط، بما تمثله من طاقةٍ وأسواقٍ وممرّاتٍ بحريةٍ وبنى تحتية رقمية متنامية. عليه، سيكون لخيارات العواصم الإقليمية، في التموضع والربط والمشاركة في سلاسل القيمة الجديدة، أثرٌ مضاعف في رسم المشهد الآتي.

إنها إذا "هدنةٌ في لعبة عضّ الأصابع" لا أكثر: تستريح فيها الأيدي قليلًا، لتبقى الأعصاب مشدودة، والحرب في أوجها—اقتصاديًا وتقنيًا واستراتيجيًا. والآتي مرهونٌ بقدرة الطرفين على ترجمة لحظة التهدئة إلى بناء قواعدٍ مستدامة، أو تركها تستحيل محطةً أخرى في مسلسل التصعيد المؤجَّل.

 
 
 

تعليقات


© 2020 مجموعة إنسايت الاستشارية

  • LinkedIn Social Icon
  • Twitter Social Icon
bottom of page