فيما تحتفل الصين، يعيد العالم تموضعه،فكيف سترد الولايات المتحدة؟
- sara john
- 9 سبتمبر
- 3 دقيقة قراءة

في لحظة مفصلية تعكس التحوّلات العميقة التي يشهدها النظام الدولي، أقامت بكين عرضًا عسكريًا ضخمًا بمناسبة الذكرى الثمانين للانتصار على اليابان، تزامنًا مع عيد ميلاد الرئيس شي جين بينغ. لم يكن العرض مجرد استعراض عسكري كلاسيكي؛ بل كان رسالة جيوسياسية بليغة، مدروسة التفاصيل، محكمة الإخراج، ومُثقلة بالرموز.
تقدّم الجنود بخطى مرصوفة بدقة متناهية، وصواريخ "دونغ" العابرة للقارات، و"فايركس" متعددة الرؤوس النووية، تبخترت في الشوارع، وهدرت الدبابات الحديثة لترسل معا إشارات واضحة لمن يعنيهم الأمر. أما المقارنة، فجاءت تلقائية مع عرض عسكري باهت شهدته واشنطن ذات يوم، في مناسبة شخصية للرئيس ترامب، لم تحمل سوى الارتباك والانقسام.
لكنّ الحفل الصيني لم يكن عرضًا للقوة فقط، بل منصةً تعبر فيها لصين عن رغبتها في إعادة رسم ملامح العالم. فقد حضره أكثر من عشرين من قادة الدول، بينهم زعيمان من حلف الناتو: تركيا وتشيكيا. انه مشهد يكسر الكثير من المسلمات التي بنت عليها الولايات المتحدة عقيدتها الدبلوماسية لعقود.
تحالفات تتبدل... ودبلوماسية أمريكية تتآكل
فلقد كانت الصفعات الموجهة للولايات المتحدة متعددة ومتزامنة. روسيا أوصدت الباب في وجه ما تبقى من نتائج لقاء ألاسكا، واختارت بكين لتعلن منها، جنبًا إلى جنب مع الصين، ميلاد محور جديد يتحدى المركزية الأميركية. الهند، التي ظنّت واشنطن أنها باتت في صفّها، قلبت الطاولة. رئيس وزرائها ناريندرا مودي، الذي حظي بتكريم خاص في واشنطن قبل أسابيع، وجد نفسه موضع إهانة بسبب عقوبات أميركية على واردات النفط الروسي. فكان ردّه مدوّيًا: ليس لواشنطن فضل في وقف الحرب مع باكستان. ثم حمل حقائبه متجهًا إلى بكين، مشاركًا في احتفال خصمه الجيوسياسي، كاسرًا بذلك عقدًا كاملًا من الجهود الأميركية لفصل الهند عن روسيا.
وكان المشهد الذي جمع شي جين بينغ، وفلاديمير بوتين، وناريندرا مودي في مصافحة ثلاثية طويلة، بمثابة لقطة تاريخية، تُجسد ولادة عالم جديد متعدد الأقطاب. لم تكن البرازيل بدورها أقل وضوحًا. فعلى الرغم من محاولات واشنطن استعادة علاقتها مع الرئيس "لولا دا سيلفا"، جاءت تهديدات العقوبات بسبب محاكمة الرئيس السابق بولسونارو لتدفع بالبرازيل نحو التماهي مع المعسكر المناهض للهيمنة الأميركية. أما كيم جونغ أون، فاغتنم الفرصة لتوجيه التهديدات مباشرة من بكين إلى كوريا الجنوبية والولايات المتحدة، في إشارة صريحة إلى فشل الرهان الأميركي على تحييده.
في هذا المشهد، باتت الدبلوماسية الأميركية تبدو كطفل وحيد في ساحة المدرسة، يكتشف أن لا أحد يرغب في اللعب معه، لا في موسكو، ولا في بكين، ولا في الجنوب العالمي، بل وربما قريبًا، لا في أوروبا ولا في الشرق الأوسط.
الصين تراهن على المستقبل... وأمريكا على الماضي
لم تعد الصين تخجل من طموحها العالمي. لقد كانت لقرون أكبر اقتصاد في العالم، ولم تكن يومًا قوة استعمارية توسعية، بل قوة ترتكز على حماية ذاتها. غير أن عهد شي جين بينغ جاء بتحوّل استراتيجي؛ حيث تسعى بكين اليوم لتكون قوة قائدة عالمية، لا تُنافس الغرب فحسب، بل تسعى إلى إعادة صياغة بنية النظام الدولي بمنظور أكثر "صينية". في سبيل ذلك، تستثمر الصين في التكنولوجيا النووية، وتخطط لامتلاك أكثر من 1000 رأس حربي نووي، وتبني حاملات طائرات عابرة للمحيطات، وأسطولًا بحريًا للسيطرة على أعالي البحار. بل ينمو اقتصادها رغم التحديات، وتقدّمها في مجالات الذكاء الاصطناعي، والتقنيات الحيوية، والطاقة، يُدهش حتى زوارها من الأميركيين أنفسهم، ممن يقولون: "هذا هو المستقبل".
وقد عبّر ذلك ساخرًا في حديثٍ مسرّب لصحيفة Japan Times ، بين بوتين وبينغ عن رغبتهما في إطالة العمر حتى 150 عامًا، بفضل استثمارات ضخمة في تقنيات الطب الحيوي، بينما ينقل الميكروفون المسرب من البيت الأبيض أمنيات ترامب في أن يعقد بوتين صفقة شخصية له! مفارقة تُجسد ارتباك المشهد الأميركي.
الداخل الأمريكي... فوضى وانكفاء
وفي الوقت الذي تراهن فيه الصين على القرن المقبل، تنكفئ الولايات المتحدة إلى معارك أيديولوجية داخلية: نقاشات عتيقة حول الإجهاض، واللقاحات، وحقوق التصويت، والهجرة، وتضييق على البحث العلمي والأكاديمي، وإغلاق الأبواب في وجه النخب العلمية الدولية، في لحظة يتطلب فيها السباق العالمي عقولًا لا جدرانًا. وتدار الوكالات البيئية والعلمية الأميركية اليوم أحيانًا بمن لا يؤمن حتى بمبادئ العلم التي تأسست عليها. إنه مشهد انكماش حضاري يُقابله تمدد استراتيجي صيني.
المفارقة أن الولايات المتحدة، التي لطالما قادت العالم عبر مؤسساتها العلمية والأكاديمية والبحثية، تبدو اليوم منشغلة بهدم ما بنته، عبر سياسات تعيدها قرونًا إلى الوراء، لا سيما حين تُقيّد الهجرة العلمية، وتُغلق الجامعات أبوابها أمام الأجانب، وتُحاصر مشاريع البحث بالتمويل والسياسة.
وفيما تُطلق الصين برامجها للابتكار وتغذي جامعاتها بالموارد، تُعاني الجامعات الأميركية من تقليص الميزانيات، ومن صراع أيديولوجي يُهدد استقلالها الأكاديمي.
الصين تحاول إعادة صياغة النظام العالمي:
لا تتحدى الصين اليوم أميركا بالسلاح فقط، بل بالعلم، بالتكنولوجيا، وبالرؤية. إنها تبارزها في بحسب قواعد اللعبة التي وضعتها أميركا نفسها. لم تعد بكين تسعى فقط إلى التماهي مع النموذج الغربي، بل إلى تقديم نموذج بديل، قائم على الاستقرار، والنمو الاقتصادي، والقيادة المركزية المنضبطة، وهو ما يجذب العديد من الدول الباحثة عن بدائل أقل تبعية.
الدبلوماسية الأميركية، التي كانت تمسك بزمام المبادرة عالميًا، باتت تتلقى الضربات من كل صوب. والأخطر من ذلك أنها تبدو حتى الآن غير قادرة على الاعتراف بعمق التحدي، فضلًا عن صياغة رؤية جديدة للتعامل معه. فالسؤال الذي يفرض نفسه، وسط هذا التحوّل الكبير، وهذه الصفعات المتتالية للدبلوماسية الأميركية:
كيف سترد الولايات المتحدة؟




تعليقات