طهران على مفترق طرق: من حرائق الحروب بالوكالة إلى يقظة قومية جديدة
- aaltaqi7
- 13 يوليو
- 3 دقيقة قراءة

أدهشتني نفسي حين قرأتُ ما كنتُ قد كتبته عن إيران والإقليم!
بعد حرب الأيام الاثني عشر، وبينما أُقَلِّب بعض مقالاتي القديمة، وقعتُ على مقالٍ نشرته في صحيفة «النهار العربي» بتاريخ 26 نيسان 2023، بعنوان: «على قعقعة السلاح ترقص إيران وإسرائيل». تملّكتني دهشة عارمة؛ فقد بدت أحداث «حرب الـ12 يوماً» حاضرةً طرقاً على الأبواب بطريقة صارخة. كنتُ قد دوّنت تلك السطور قبل السابع من تشرين الأول، وقبل مغامرة السيّد حسن نصر الله في لبنان.
كتبتُ آنذاك:«ينبغي أن تكون أصمَّ حتى لا تسمع قرقعة السلاح في الإقليم. وعلى إيقاعه قد يفلت حجرٌ أو تضلَّ البوصلة. الأمر يتجاوز كثيراً تفاصيل غزو أوكرانيا؛ هناك مرجل يَغلي في منطقتنا وتحوّلاتٌ عميقة تدقّ الأبواب».وكتبـت: «كلّما تجدد الوهم القديم بانسحاب الغرب من الشرق الأوسط، يكفي أن نتفحّص خرائط الانتشار البحري الغربي في المتوسّط والبحر الأحمر والخليج وبحر العرب لندرك أن لا أساس لهذا الكلام. كما في خمسينات القرن الماضي؛ تبدّل شكل الهيمنة الغربية والأميركية ولم يختفِ حضورها الوازن والمأساوي».
الولايات المتحدة لن تنزل بقواتها البرية في منطقتنا إلا في الحالات القصوى، وحتى إن فعلت فسيكون الحضور محدوداً ونوعياً ومؤقتاً. ما دامت هيمنتها على طرق التجارة العالمية قائمة، فستواصل إدارة الصراعات عن بُعد برضا، أو ضغط، أو شراكات وتحالفات… سَمِّها ما شئت؛ لكنها مستمرة. ومع أفول لعبة «توم وجيري» بين إسرائيل وإيران—صراعٌ يتوهّج ثم يخمد دون حسم—تتبيّن لنا هشاشة الحبال التي يتوازن عليها الإقليم.
في مناخٍ دوليٍّ وإقليميٍّ من الهدوء الهش، ومع قلّةٍ لا ينقصها الحمق، تنهار تكتيكات «ضبط الصراع» من دون بدائل تُذكَر. كلا الطرفين يحلمان بنصرٍ في المعركة المقبلة لفكّ استعصالهما، ولا يملكان سوى حلولٍ قصوى؛ وهنا تكمن خطورة اللحظة حين تصبح اللعبة وجودية. (انتهى الاقتباس).
كان واضحاً أنّ المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل آتية لا محالة، وكأننا في «قصة موتٍ معلن» لماركيث؛ أمرٌ مكشوف يتعامى عنه الجميع. يعرفه الجميع، لكن الحماقة، والقدرية العقائدية، و«التشبُّث بالموجود» عَمَت أبصار القادة والنُخَب.
شكّل انهيار نظام الأسد المنهار انقطاعاً لوتر «كَعب أخيل» الإيراني وإغلاقاً لمسار الأذرع، وانهياراً لخريطة النفوذ الميليشيوي. ورغم كل المؤشرات، تُرِك الحجر يتدحرج حتى بلغ طهران.
هذه التحوّلات العميقة ليست سوى نذيرٍ لما هو آتٍ؛ فالمشهد دراماتيكي حقاً. التغيير في إيران حتميّ ويطرق الباب بقوة. قد يتمّ تدريجياً ومتراكماً، وقد يجيء عاصفاً. لا «ربيع» إيرانياً على النمط العربي، ولا انقلاباً كما تتخيل دوائر غربية أو إسرائيلية؛ لكن الصدمات الارتدادية تهذّب أدوات القوى والنخَب السياسية والعسكرية. احتمالات التحول الهادئ واسعة، فالنظام الإيراني ليس دكتاتورياً محضاً (على شاكلة الأسد أو كيم جونغ أون)، بل هو نظام شمولي تحكمه نُخبةٌ عقائدية تسمح بإعادة تدوير الدماء في حدود بيت الطاعة.
يدور الجدل في طهران حول خطر الانكشاف الاستراتيجي للدولة/الأمة، وحول تهاوي العقيدة العسكرية القائمة على «تصدير الثورة» والاعتماد على أذرع ولائية تُقدَّم بوصفها خطوط دفاع متقدمة؛ لا لتحرير فلسطين بالطبع، بل لأجل حماية طهران، قلعة الولي الفقيه. غير أنّ الباسدران يمسك بمقدّرات مالية أساسية، ما يفتح باباً لانعطافات حادة.
على المستوى الرئاسي، تتراوح السيناريوهات بين تصعيد مجتبى خامنئي، أو تشكيل مجلس من كبار الملالي، أو مجلس رئاسي، أو حتى مجلس عسكري. وتلوح إرهاصات في البنية العقائدية نفسها حول جدوى «تصدير الثورة» في زمن يقترب فيه الخطر من عقر الدار، وتتجدد الحاجة لمراجعة التموضع الإقليمي وشبكة التحالفات.
إيران اليوم أمام مفترقين حادّين:
إمّا مواصلة اللعبة المزدوجة وشراء الوقت، مع خطر الانحدار إلى وضعٍ شبيه بالعراق بعد 1991.
أو القطع مع ازدواجية الدولة/الميليشيا، وإنهاء استراتيجية الأذرع الإقليمية، وإعادة بناء جيشٍ وطني يرتكز على أسس القوة والأمن القومي الحديث، وتسريع التنمية الحضارية.
يُلحَظ صعود خطابٍ قوميٍّ عقائدي بديلاً من الخطاب الديني، مع تعزيز قيم «الدولة الأمّة» على حساب «الدولة الميليشيا». لكن الصراع لم يُحسم بعد؛ فثمّة جيلٌ قديم وبيروقراطيةٌ عسكرية مستفيدة تعيش على العصبية الطائفية وتحلم بإعادة فتح «فروع الثورة» حتى تحقيق نصر متخيَّل. أُرجّح أن تميل الكفّة في النهاية إلى التيار القومي، فلابدّ من ذلك.
في سبعينيات القرن الماضي، ظلّ الاتحاد السوفيتي يُموِّل الأحزاب الشيوعية، حتى بعد أن أدركت نخبته نهاية الحقبة العقائدية. على المنوال نفسه، قد تُنفق إيران بعض الفتات على أذرعها، لكنها تقترب من فطامهم وتركهم يعتاشون بأنفسهم؛ ولا يبدو أنها مستعدة لتمويل مغامرات خائبة بمليارات جديدة.
ستترك هذه التحولات أثراً بالغاً في سوريا ولبنان. وبعد كل ما جرى، يصعب تخيّل عودة النفوذ الإيراني إلى سابق عهده هناك. بل يدور في طهران نقاشٌ حول ضرورة تفاهمات جديدة مع الدول العربية وتركيا—التي تشاركها التوجس من التفوق الإسرائيلي المطرد.
في زيارتي الأولى لطهران أدركتُ كم كانت الصورتان النمطيّتان عن هذا الشعب مضلّلتين: صورة شيطانية في العداء، وأخرى رومانسية في الولاء والتقديس. خلف هذا التبسيط شعبٌ ثقافته ثرية، ونُخَبٌ واثقة، وجيل Z غير خاضع ولا منكسر كما بدا في زمن «الإصلاح»؛ إنه جيلٌ يعرف ما يريد.
تعليقات