top of page
بحث

في قلب عاصفة مثلى، تبحث سوريا عن شاطئ أمان!

  • صورة الكاتب: sara john
    sara john
  • قبل 45 دقيقة
  • 13 دقيقة قراءة
ree

منذ بداية الثورة الزراعية، كانت سوريا، الواقعة على خطوط تماس كتل استراتيجية، دولية وإقليمية كبرى، ساحة أو شريكا مهما في الصراعات الإقليمية بين القوى الكبرى في العالم القديم. 

فحين تكون سوريا ضعيفة يصبح الصراع عليها، وحين تقوى شكيمتها، تصبح ندا وشريكا في توازن القوى، وتصير منبعاً للعقائد والأديان والأفكار التي تشكل تاريخيا مصدر غناها البشري وأصل ثروتها المكتسبة من ثرائها البشري وموقعها الجيو-استراتيجي. 


الجديد في الأمر، ان سوريا الان في أوهن مراحل وجودها، وأضعف لحظات سيادتها الوطنية. والجديد أيضاً، ان الكتل الاستراتيجية الدولية والإقليمية تمر بلحظة من الصدام بعنف جارف، فيما تتدهور بشكل منقطع النظير مقومات السلام العالمي الهش القائم، لتعود سوريا بعد تحريرها من ربقة حكم الأسد، بؤرة صراع شرس، بما قد يهدد من جديد مستقبل بناء الدولة السورية الخديجة في آن معا. 

فسوريا المثقلة بإرث حربها الداخلية الطويلة، وبرجس الصراعات العقائدية الإقليمية، هي في أمس الحاجة اليوم للانكفاء والتعافي من جهة، والانتماء للعصر والانفتاح من جهة اخرى. 


في كل مرة تمكنت سوريا من نفض العصبية العقائدية، وجنحت لحرية الفكر والثقافة والفلسفة، صعدت على جبين التاريخ، لتصير بؤرة انصهار ثقافية عالمية مهولة. وحيثما انكفأت على العصبية وظلام الفكر، يبست سويرا واضمحلت، بل صارت بورا لأهلها وللإقليم وللعالم. 


في ظل تداعي مقومات السيادة الوطنية السورية، تصبح خيارات الحكومة السورية في درء المخاطر وتحقيق الاستقرار في علاقاتها الإقليمية والدولية، كمحاولات ربان سفينة مكسرة الأشرعة وفاقدة الاتجاه. 

ذلك انه ما لم يتم ترسيخ السيادة الوطنية السورية، عبر تعزيز السلم الأهلي والتوافق والوطني، وما لم يتم التلاحم بقوة مع الظهير العربي، وعلى رأسه المملكة العربية السعودية، فلسوف تتدحرج سوريا، سريعا، نحو هاوية جديدة. 


العلاقات الدولية وتحولاتها


لدينا من جهة، انقلاب جذري في العلاقات الدولية يشمل بنية المصالح ومقومات القوة والصراع في العالم! 

يذكرنا هذا الانقلاب بحال العالم قبيل الحرب العالمية الأولى، والتي انتهت بانهيار خمس امبراطورية ومنظوماتها الدولية. 


تساهم عوامل متنوعة في الانقلاب الراهن. 

أولها انهيار النظام ثنائي القطب واتفاقات يالطا لتقسيم العمل الاستراتيجي بين المعسكرين. ثانيها انهيار المقومات الاقتصادية-والسياسية للسلام العالمي القائم على الاتفاقات الإطارية لمنظومة "بريتون وودز" والمنظمات والاتفاقات الدولية المشتقة منها. ثالثها صعود خصوم وأقطاب منافسة عديدة، إلى جانب القطب الأمريكي الأعظم. وفي مقدمتها الهند والصين، اللتين تمسكان بعوامل وحصص راسخة في الاقتصاد والنمو العالمي. رابعها الانقلاب العميق في هيكل النموذج الاقتصادي والسياسي للولايات المتحدة بما يواءم استعادة مبادرتها الاستراتيجية مع ما يحمله ذلك من مخاطر وفرص جوهرية تواجهها. وخامسها، ولعله أولها أهميةًً، يتمثل في ذاك الانقلاب العاصف والعميق لثورة الذكاء الكمومي، وما يتبعها من انقلاب في علاقات الإنتاج في ظل منافسة شرسة بين الدول الكبرى، في سياق على استتباب نمط جديد من الإمبريالية المعرفية، وليصبح الصراع على الموارد والأسواق مجرد تفاصيل في لوحة الصراع العالمي على اقتصاد المعرفة.

بدى لنا هذه المقدمة المختصرة هامة للتأسيس لفكرة عنف  التحول العالمي. 



سوريا في خضم الصراع الدولي الراهن


الولايات المتحدة: 

تحاول الولايات المتحدة تدارك بطرها ولامبالاتها وانحيازها في الإقليم، لتدفع ثمن رهانها على إزمان الأزمات، وإدمانها اللعب بذرائع الإرهاب، واعتمادها على التوازنات القلقة لضبط صراعات منخفض اللهب. انها تعمل على إعادة تشكيل تحالفاتها الإقليمية ضمن رؤيتها للمنافسة العالمية على امتداد يندرج الشرق الأوسط وشرق المتوسط وجنوب القفقاس وصولا للمحيط الهندي. 

من حيث المبدأ تجد أمريكا نفسها امام سيناريوهين متناقضين تماما: 

الأول هو سيناريو إبقاء المنطقة على أسنة الحراب (كما يروج نتانياهو) لتطلق العنان لإسرائيل وتكرس تسييدها وسلمها الإقليمي (Pax Israelica) تفرض بقوة السلاح، في مواجهة اقطاب الصراع الإقليم – تركيا وإيران – وفي مواجهة العرب كي تضبط الإيقاع والتوازنات. 

السيناريو الثاني وهو الخيار الذي اختطته دول الخليج العربي، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، بترجيح الاستقرار والسلام والازدهار بديلا لمنطق تأبيد الصراع، كنقيض لمنظومة الحرب الباردة الإقليمية الدائمة، التي ادارتها إيران وإسرائيل ببراعة على مدى عقود. 

فخلال زيارته لدول الخليج العربي، حاول الرئيس دونالد ترامب، ترجيح الخيار العربي الخليجي ورسم مع الزمير محمد بن سلمان الملامح الرئيسية لهذه الاستراتيجية. 

لكن انجراف الولايات المتحدة، للانخراط المباشر في الصراع بين إيران وإسرائيل، وقصفها الكاسح للمنشئات النووية الإيرانية، سرعان ما شكل ارتدادا عن مقومات هذا التحول. 


ثم لعل الولايات المتحدة تعلن بذلك انها تختار السيناريو الثالث المتمثل في مزاوجة بين السيناريوهين السابقين: سيناريو إبقاء المنطقة تحت ضغط للحرب الباردة الدائمة كأداة لتطويع خصومها الدوليين والإقليميين، وسيناريو السلم والاستقرار الذي يشكل جوهر الخيار العربي والخليجي. 

وفي رأينا ان هذا الخيار خطر جدا، لأنه يحمل قدرا كبير من عدم الاستقرار للمنطقة ولسوريا بشكل أخص.  


أمريكا وصراعها مع الدول الكبرى الأخرى 


في خضم هذه التحولات رفع استعراض الولايات المتحدة للقوة الكاسحة ضد المنشئات الإيرانية، درجة الاحتدام والتضارب، فيما رأته هذه الدول هجوما عي عقر دارها. 

رغم اضطرار الرئيس ترامب لإعفاء صادرات الطاقة الإيرانية إلى الصين، تجنباً للمزيد من استفزاز الصين ولدفعها للوقوف صراحة إلي جانب إيران. 

الا ان مراكز الأبحاث ومراكز دعم القرار في كل من بكين وموسكو موجدة في رأيها ان التورط الأمريكي يشكل تهديدا مباشرا لكل منهما وخطرا يحيق بتحالفاتها وبمشاريعها الاستراتيجية في جوارها المباشر، لبناء نفوذها بما في ذلك طريق الحرير او مشاريع الطاقة.


الصين: بدورها تجد الصين نفسها امام خيارات حرجة. إذ تشكل منطقة الشرق الأوسط الممر الواعد والأوفر حظا لمشروعها الحزام والطريق. وإضافة لتجارتها القوية والنشطة مع دول الإقليم، في مجال الطاقة او الأسواق، فان 75٪ من حاجاتها للمواد الأولية والطاقة، و62٪ من صادراتها تمر ببحار الإقليم بل بمضائقه العديدة. 

لا ينحصر التهديد الأمريكي للمصالح الصينية على الجانب الاقتصادي البحت، بل يمتد ليشمل مجمل المطامح الصينية لبناء فضاء جيو-سياسي وجيو-اقتصادي صديق لها في الشرق الأوسط. 

وإذ تصبح سوريا البؤرة الفعلية لهذه الصراعات، وإذ تتحول لثقب أسود يستجر مجمل التناقضات الدولية المكثفة في الإقليم، لا تجد الصين مفراً من دخولها لخضم الوضع السوري بشكل مباشر او غير مباشر. 

وبعد ان ضغطت الصين طويلا من اجل اخراج عشرات الألوف من المقاتلين الإيغور من تركيا، انتهى الأمر بدفعهم نحو مناطق المعارضة السورية، والمناطق المشرفة على المواقع العسكرية الروسية، ليصبحوا بعدها ضمن جيش السوري الجديد.  

لا شك ان الصين تجد في آلاف المقاتلين الإيغور في سوريا، وصعود التثقيف السياسي الجهادي في المجتمع والأجهزة الأمنية السورية مخاطر جدية نتيجة احتمال تسخيرها ضد الاستقرار في الداخل الصيني. 


روسيا: 

روسيا من جهتها، وبعد اغلاق مضائق الدردنيل التركية إثر الحرب الأوكرانية، وبعد السابع من أكتوبر 2023 وبعد إسقاط النظام السوري السابق، والحرب الأهلية في ليبيا والسودان، تجد ان الولايات المتحدة عاكفة عمليا على تقزيمها بشكل متصاعد، وتحجيم قدراتها وصولا لإخراجها من الإقليم وتفكيك مصالحها التي بنتها على مدى عقود. 

وإذ يشكل سقوط النظام الأسد خسارة إقليمية وازنة لروسيا، فان اهم ما خسرته روسيا في حقيقة الامر هو الجيش السوري الذي بذلت فيه، على مدى عقود، مقدرات وجهودا هائلة، والذي كانت تتمتع داخله بنفوذ سياسي ومعلوماتي كبير.


لذلك، ورغم حالة الحصار شبه الكامل لطيرانها وقطعها البحرية في الأجواء السورية وشرق المتوسط، تستمر روسيا على منهج "تحديد الخسائر" الذي اتبعته بعد انسحاب قواتها من دول الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي السابقة حيث كانت مستعدة للدفاع عن قواعدها بكل ما هو ممكن. 

لذلك تتحين روسيا الفرص، ريثما تتحول الأمور لصالحها في لحظة ما. لكنها تحاول عدم استفزاز الحكومة الراهنة ولا القطع معها من جهة أخرى. ويبدو ان روسيا لا تزال، على المدى المتوسط تنتظر انقشاع الوضع، بعد غزة والضربات ضد إيران، كي تحسم خياراتها، وكي تنتج استراتيجيتها النهائية تجاه التحولات في الإقليم، وفي قلبه بالذات، سوريا. 

 

الهند: ولا تكتمل هذه اللوحة الدرامية، دون الحديث عن ذلك المارد الجديد الصاعد الا وهو الهند. ورغم المعطيات والمغريات الواضحة التي تقدمها الولايات المتحدة في سعيها لضم الهند لمنظومة تحالفاتها الاستراتيجية، وابعادها عن روسيا ودفعها لسياسة أكثر مواجهة مع الصين، ورغم اندفاع الإدارة الأمريكية الراهنة نحو تحويل جنوب الهند لباحة خلفية للتقنية العالية الأمريكية، لا يبدو لنا ان الهند ستنخرط في صراع المعسكرات لصالح الولايات المتحدة، ولا يبدو ان الهند ستبني حساباتها الاستراتيجية في الشرق الأوسط من باب التصادم مع النفوذ الصيني. 

اذ يشير تاريخ الهند القديم والحديث، انها لطالما كانت ترسم مصالحها باستقلال كبير. وبحسب مقولة دبلوماسية هندية معروفة فان "السياسة الهندية هي هندية وحسب". 

ورغم العلاقات الهندية الإسرائيلية الوثيقة نرجح حتى الآن، ان تجنح الهند عمليا لدعم الرؤية العربية وخطة الاحتضان العربي لسوريا الجديدة. 

لكنها تعطي أهمية كبيرة للعلاقات التقنية مع إسرائيل في ذات الوقت، تبدي نشاطا ميدانيا على الأراضي السوريا لدرء مخاطر القوى الجهادية العديدة التي تزدهر في ظل الوضع الراهن. 


سوريا - الذخيرة التاريخية الثقافية والسياسية للإقليم، والساحة الاجبارية لتوافقاته وصراعاته. 


لطاما كانت الجغرافيا السورية الممتدة حتى الجزيرة العربية، جسرا بين عدة حضارات قوية عسكريا واقتصاديا وديموغرافيا. 


لذلك كان على بلاد الشام – سوريا ان توازن دوما، بين امبراطوريات ثرية وقوية على جناحيها. كانت توازن دوما، بين امبراطوريات ما بين النهرين وامبراطوريات الفرس، من جهة، وبين امبراطوريات الفراعنة ثم الإغريق ومن بعدهم الرومان والبيزنطيون ومن جهة أخرى. 


ولطالما كانت سوريا أيضا، ممراً إجباريا لطريق الحرير والتوابل، بكل ما يحمله من انتقال للتجارة والثروة والاعراق، والثقافات، والأديان، والقيم. فانتعشت بلاد الشام- سوريا، ثقافة وقيما روحية تجارة وأسفاراً، لتصير فضاء مفتوحا ولتغدو بؤرة تشابك ثقافي وسياسي واقتصادي منقطع النظير. لكن سوريا حين تضعف، كانت تسحق، في كثير من الأزمان، ديموغرافيا واقتصاديا وسياسيا تحت وطأة صراعات الدول القوية المحيطة بها. لكن، حينما كان يدب الضعف في كلا جناحيها الاستراتيجيين شرقا وغربا - المتمثلين بممالك الشرق وممالك الغرب، كانت بلاد الشام – سوريا، تجمع قواها الممتدة حتي جزيرة العرب، وصولا لنهري دجلة والفرات، وكانت تسارع لملء الفراغ الاستراتيجي عسكريا وسياسيا وفكريا. تلك كانت ملامح لحظات البراقة من نهوض التدين في بلاد الشام وصولا للحظة البزوغ الماجد للدين الحنيف. 


مع بزوغ الدين الإسلامي الحنيف، وتجسيدا لهذا البعد، اكتسبت سوريا بعدا استراتيجيا إضافيا من خلال تحولها لموئل فكري ومرجع حضاري مفتوح وتسامحي، تتقاطع فيها مهارات وثقافات كل البلدان الإسلامية وغير الإسلامية. ناهيك عن حقيقة موضعها ودورها كممر اجباري لمعظم تجارة الحج المزدهرة (إلى ان تم اختراع وسائل النقل الحديثة). 


لكن مع صعود السلاجقة، وقطعهم لطريق الحرير البحري والبري نحو أوربا، ومع استماتة أوربا في البحث عن طريق بديل عبر أمريكا، انقطع الشريان الوظيفي الأهم لبلاد الشام – سوريا ألا وهو التجارة والثقافة العالمية. 

فلقد بقيت بلاد الشام قرونا طويلة بعد ظهور الإسلام تتمتع بنسبة عالية من التسامح تجاه التفاوت العقائدي والاثني، بل حصلت عمليات قسرية للعقيدة الدينية في لحظات محدودة جدا وتم ذلك دون ضغط على البنية الإثنية المتنوعة لبلاد الشام. 

لكن الطابع العقائدي المتشدد للإقطاعية العسكرية السلجوقية، ومن بعدها العثمانية، قد أدى لفرض رؤية عقائدية أحادية شمولية بحد سيف الولاء للدولة العثمانية. واعكس ذلك انعكست بهجرات وتبدلات ديموغرافية ومجتمعية حادة. 


بعد استقلالها، عن الإمبراطورية العثمانية ثم الاستعمار الفرنسي مع نهاية الحرب الثانية، تمتعت سوريا باستقرار نسبي في ظل توافقات يالطا وما تلاها إعادة تنظيم العلاقات الدولية، حيث صارت سوريا من نصيب المدارات الروسية. لكن سرعان ما اختلت تدريجياً مقومات هذا الاستقرار. كانت بدايتها سقوط الاتحاد السوفيتي وما تلاها من غزو العراق. 

في حينه سارع النظام السوري السابق لجسر الهوة مع الولايات المتحدة، تمكن من فرض نفسه كقوة تدخلية واداة إقليمية موثوقة ومخولة كوسيط قوة، سواء في لبنان أو تجاه ضبط الفلسطينيين، او تجاه إسرائيل، او موازنة العلاقات بين إيران ودول الخليج العربي. إلي ان اندلع الثورة السورية.


بعد ثلاث سنوات من اندلاع الثورة السورية، جنحت الولايات المتحدة نحو تفويض روسيا بالوضع السوري من منطق "Take it but Fix it" أي (خذها لكن أصلحها). 

وسرعان ما جاءت تحولات عاصفة أدت لسحب البساط الأمريكي من تحت التفويض الروسي. 

كان أولها الحرب الأوكرانية، وثانيها السابع من أكتوبر 2023، بل، ثمة رأي قوي ان سقوط هاريس في واشنطن، قد سرع في حصول التحول السوري امام خشية الديمقراطيين من إعادة تفويض روسيا في الاقليم.

احتجنا لهذه المقدمة لأن الكثير من ملامح الصراع الراهن على سوريا لا يزال مرتبط وثيقا بهذه التحولات. 


تركيا: التي تمكنت في العقدين الماضيين من تعظيم موقعها ودورها الاستراتيجي الدولي والإقليمي بسياسات مزدوجة ومرنة. 

كانت تركيا، على النقيض من إيران مثلا، تعتمد في بناء شرعية النظام التركي، واستقرار نموذج الدولة واستراتيجيتها الإقليمية، على عوامل جيو - اقتصادية أصيلة، اكثر بكثير من اعتمادها على العوامل العقائدية التعبوية الواهية. إذ يشكل تعظيم الميزات الجيو-استراتيجية لتركيا التي يمكن القول انها إحدى اهم الجغرافيات في العالم، جوهر السياسات بعيدة المدى للامة والدولة التركية. 

من هذا المنظور، تعتقد من النخب التركية ان الموقع الاستراتيجي لتركيا، وقوتها الاقتصادية، يجب ان يوظف لتصبح تركيا شريكا موضوعيا في اقتصاديات الطاقة والتجارة، وفي حماية الطرق البحرية وتحالفات الإقليم. 

لذلك، فمع احتفاظها بعلاقات دبلوماسية نشطة مع إيران وروسيا وإسرائيل، تمكنت تركيا من جعل نفسها ضرورة لا غنى عنها بالنسبة للغرب، سواء عبر تدخلها النشط في سوريا، ثم في دورها الاستراتيجي ضد روسيا سواء في أرمينا ووسط آسيا، ثم ليبيا ثم السودان، او، بعد الحرب الأوكرانية، عبر اغلاق مضائق الدردنيل امام الأساطيل الروسية، ثم دعمها لأوكرانيا بالمسيرات، وأخيرا مساهمتها الحيوية في عملية إسقاط نظام الأسد. 

بذلك تعتقد تركيا ان بمقدورها، بل أن من حقها ان تصبح شريكا مباشرا في تشكيل سوريا والإقليم من خلال ما حققته من موقع حيوي في استراتيجية الغرب وعلى الخاصرة الجنوبية لحلف الأطلسي وشرق المتوسط بشكل خاص. 

كما تتطلع تركيا لمحيطها الاستراتيجي من منظور الفرص والمخاطر الناجمة عن الفراغ الاستراتيجي الناجم عن الانسحاب الإيراني والروسي في الهلال الخصيب من جهة، لكنها بالمقابل تنظر بريبة وتحفز كبيرين إزاء التسييد الإسرائيلي، لتجد في إسرائيل حاليا الخصم الأكثر راهنية، وربما المنافس الوجودي الاستراتيجي الأخطر.  

وفيما يتعلق بسوريا، تشعر تركيا بوضوح ان دورها الحاسم في قلب نظام الأسد وفي احضار الحكومة الراهنة إلى السلطة، يخولها ان تقوم هي بالدور الرئيسي برسم أولويات وتحالفات سوريا، ورسم نموذج الدولة عقائديا وسياسيا واقتصاديا، وان تكون لها حصة الأسد في تكوين الكوادر السياسية والدبلوماسية، وبناء الجيش، وبناء عقيدته، وتسليحه. 

بل أعلنت تركيا عن نيتها اقامة قواعد عسكرية في عميق الأراضي السورية، الامر الذي ردت عليه إسرائيل بقصف متواصل للمواقع المحتملة لهذه القواعد التركية، ولا تزال حتى الساعة تقصف مواقع القوات المعروفة بارتباطها بتركيا في الشمال السوري.  




إيران: 

كان انهيار النظام السوري السابق، مثل انقطاع "كعب آخيل" في خريطة النفوذ الإيرانية. لكن ذلك، لا يعكس كامل اللوحة الكاملة للتحول العاصف في الحال الإيراني. 

فلقد حصل انكشاف استراتيجي جوهري لإيران كما تداعت العقيدة الاستراتيجية الإيرانية المستندة على نشر الثورة ودور الأذرع كخنادق ترفع قدراتها التفاوضية وتعظم موقعها الإقليمي. سيفرض هذا الانكشاف الفادح حتما تبدلا عميقا في الفكر الاستراتيجي وفي نموذج السلطة في طهران، بل وفي الهيكلية العقائدية الحاملة للنظام. (وهو ما نعكف على تحليله بشكل وثيق). 

ثمة جدل عميق وحامٍ بين نخب السلطة الإيرانية الآن حول هذا الانكشاف. ويدور الجدل حول جدوى تصدير الثورة في حين يصل التهديد لعقر طهران، وحول مجمل عملية التموضع الإقليمي لطهران وتحالفاتها شبكة أولوياتها الإستراتيجية. 


في الحال الراهن، تقف طهران امام خيارين حادين: فإما ان تقرر القيادة تحويل إيران لحال شبيه بالفيتنام او العراق -1991، وإما ان تلتفت بجدية لأمنها القومي كدولة طبيعية والانكفاء الاستراتيجية للاستثمار بل في مقومات الامن القومي الإيراني ذاته.


بل يلاحظ بشكل ملفت في إيان بعد حربها المباشرة مع إسرائيل، صعود الخطاب العقائدي القومي بديلاً للخطاب العقائدي وتعزيز قيم الدولة القومية، دولة الأمة، بديلا عن الدولة الميليشيوية. لتصبح قضية إعادة تعريف الدولة الإيرانية ودفاعاتها القومية وبنيتها الاقتصادية هي الركيزة الحاكمة لأولويات العقيدة الاستراتيجية الإيرانية الناشئة. 

لم يحسم هذا لصراع بعد!

إذ يقف على المقلب الآخر جيل قديم وبيروقراطية عسكرية متجذرة ومنتفعة، تريد تعزيز العصبية العقائدية الشيعية واستعادة بناء "فروع الثورة الإيرانية" حتى النصر. 

لكني احسب الكفة تميل لصالح التيار القومي الإيراني. 

وكما الاتحاد السوفيتي خلال سبعينات القرن الماضي، استمر دعمه الفولكلوري للأحزاب الشيوعية في حين كانت نخبة الصلبة فيه تدرك نهاية الحقبة العقائدية. لذلك فقد نتصور ان تستمر إيران في إنفاق بعض الموارد على أذرعها، لكنها تجد منذ الآن، انها بحاجة ان تفطمهم وتتركهم يسترزقون بأنفسهم. فالنخب الإيرانية تبدو بعيدة عن العودة لاستثمار المليارات من جديد في الوظائف الخائبة لأذرعها.


سيكون لهذا التحول أثر كبير في وضع سوريا وفي سياسة إيران تجاهها. وبعد هذه التطورات، يصعب ان نتصور أي سيناريو عملي وواقعي، يتيح عودة الفوعة الإيرانية في سوريا او لبنان. 

ذلك إيران، في عز عنفوانها، وقبل تلقيها الضربات المباشرة من إسرائيل وأمريكا، لم تستنصر لحلفائها. فكيف حالها وقد زال انتفاخ أذرعها. 

ثم انه، في سياق هذه المراجعات العميقة، ثمة من يقول في طهران بضرورة التوافق مع الدول العربية وتركيا التي تشترك مع طهران راهنا في التوجس من التسييد الاسرائيلي المستشري، الامر الذي سينعكس بدوره حتما على سوريا الجديدة وموقعها في التصورات العربية من جهة والتركية من جهة أخرى لهندسة البناء الإقليمي. 


إسرائيل: 

لا تزال إسرائيل تعيش سكرة الغبطة وغرور عنجهية القوة على الجميع في الإقليم. لكن غرور القوة هذا، يجعلها تتشرنق في عزلة حقيقية. 

وفي حين تدعي إسرائيل انها تستطيع الاكتفاء بدعم القوة الأمريكية المهيمنة الكونية الكبرى، فان احتدام الوضع الدولي يجبرها على الانكفاء في الشرنقة الأمريكية في عالم صار متعدد الأقطاب. وفي حين تنكفئ الولايات المتحدة على ذاتها بشكل ملفت، تترقب قوى دولية عديدة العودة لقلب المجن في الإقليم. 

ينطبق ذلك على أوربا التي تجد سياسات إسرائيل عبء استراتيجيا. وينطبق على روسيا والصين حيث تجد مراكز الأبحاث فيمهما ان إسرائيل، وخاصة بعد ضرب إيران، قد صارت جزءً عضويا من الاستراتيجية الأمريكية التي تحاول اخراج هذه الدول من الإقليم. 

بل تمر العلاقات السطحية بين إسرائيل والدول العربية التي مضت مخلصة نحو السلام معها، بأزمة عميقة. 

في هذا السياق، تشير المصادر الإسرائيلية لحالة من الغبطة الكبيرة من سرعة التقدم في المفاوضات مع الحكومة السورية. وليس من الوضاح بعد طريق الوصول لاتفاق ينهي عمليا الصراع مع إسرائيل بشكل نهائي. 

بل ينظر البعض في إسرائيل ان السلم مع الحكومة الراهنة في سوريا سيعني تداعي مقومات المشروع الإسلامي الإقليمي القائمة على العداء للغرب وإسرائيل، مما يشكل فرصة وبداية لإخراج الصراع العربي الإسرائيلي من اجندة الإسلام السياسي، لتنحصر هويته في توجهاته المذهبية الداخلية. ولا تخفي مراكز الأبحاث الإسرائيلية استعدادها للمخاطرة بتجربة حكم ثانية تشبه تجربة تأسيس حماس في غزة. 

لكن إسرائيل تعمل على الأرض من اجل تعزيز 1) الاختراق الأمني والمعلوماتي والمالي لسوريا 2) درء مخاطر المقاتلين الجهاديين السوريين والأجانب، وهو ما تقوم به بشكل فعال عبر عمليات القصف والاغتيال 3) ضمان عدم السماح بتسليح استراتيجي للجيش السوري 4) إبعاد السلاح الثقيل لمسافة كافية عن حدودها 5) وإذ تسير مفاوضات السلام السورية الإسرائيلية بشكل متسارع، ستوفر هذه الاتفاقات فرضة نادرة بالنسبة لإسرائيل فيم محاولتها لاستبعاد تركيا عن المشهد السوري، وقطع الطريق على إمكانية تحويل سويرا لمنصة استراتيجية لها.


سوريا في خضم العاصفة الكاملة. 


بذلك، تتقاطع، دوليا وإقليميا النصال على النصال فوق الجسد السوري الواهن. في حين تعاني سوريا من انهيار صارخ ومتعدد المحاور، لسيادتها وقرارها الوطني. 

إذ يمكننا ان نحصي على الأرض، أكثر من أربع عشرة قوة عسكرية غير موالية للعاصمة دمشق. بعضها يمثل دولا مثل إسرائيل وتركيا وروسيا والولايات المتحدة المدعومة وحلفائها الأطلسيين، وبعضها يمثل قوات محلية حماية ذاتية لمكونات مختلفة اثنية وطائفية وعشائرية، وبعضها أيضا يعكس طيفا واسعا من الميليشيات الجهادية من الإيغور وأنصار السنة وصولا إلى داعش، ونذكر في آخر المطاف قوات بلاك ووتر الأمريكية غير الحكومية العاملة في دمشق وغيرها على الأراضي السورية. 

إذا، في غمرة هذا الضعف والتشتت، تتقاطع وتتصادم في سور يا عدة مشاريع كونية متناحرة.


حروب طرق الطاقة: 

ثمة صراع محتدم حول خطوط نقل الطاقة المتوفرة بكميات هائلة من وسط آسيا وإيصالها اما للمتوسط او المحيط الهندي. 

وجدت الولايات المتحدة في غزوها لأفغانستان فرصة عبر باكستان لكنها فشلت. ووجدت روسيا في إيران ممرا عبر بحر قزوين مرورا بشمال العراق وسوريا نحو جيهان التركية لكنها فشلت نهائيا بسقوط النظام السوري. وهي لا تزال تسعى لإيجاد ممر نحو المحيط الهندي عبر إيران. 

من جهتها، وبعد ان فوضت الولايات المتحدة تركيا بمناهضة السياسات الروسية في القفقاس ووسط آسيا، شجعت الانعطاف الكازاخي الكبير بعيدا عن روسيا ونحو أذربيجان وتركيا، ثم تمكنت تركيا من توجيه ضربة ساحقة للقوات الروسية في أرمينيا، وأمنت بذلك ممرا مباشرا للطاقة وسكك الحديد نحو ميناء جيهان التركي.

لكن هذه الحرب لا تزال حادة ومنعقدة وتدور من جديد حول سوريا. 


حروب خطوط التجارة: 

فوق ذلك، يتقاطع مشروعان كونيان في الإقليم. الحزام والطريق الصيني وصولا نحو أوربا. ثم الطريق البديل - طريق التوابل - الذي تروج له الولايات المتحدة انطلاقا من الهند نحو الجزيرة العربية نحو أوربا أيضاً. 

في هذا السياق، تمكنت الصين من افتتاح خط حديدي نحو إيران مرورا بباكستان. وحمل الانعطاف الحاد لباكستان نحو إيران خلال الصدام مع إسرائيل، وبعيدا عن الخلافات الطائفية، الكثير من المؤشرات الصينية، بل والروسية. في هذا الصراع تقع سوريا على الطرف المتوسطي لكل هذه المشاريع. 


حروب الممرات البحرية:

وتحتدم بذلك الصراعات على خطوط النقل البحرية والبرية السورية. ويتجلى ذلك بوضوح من خلال التنافس الأوربي الروسي والأمريكي – البريطاني والتركي على عقود النفط السوري، والموانئ السورية. وبسرعة ملفتة تدخل إسرائيل على خط الممرات التجارية ومستقبلها في سوريا. 


إذا، حروب النفوذ والتفويض الإقليمي:

ما بين التسييد الإسرائيلي والصعود التركي تتشابك الحراب في سوريا، شمالا وشرقا وغربا وفي طرابلس- لبنان، وكذلك في الساحة الاستراتيجية للشرق الأوسط وشرق المتوسط. وتنخرط الولايات المتحدة وأوربا مباشرة، هذه المرة، وعبر أدوات عديدة في هذه الصراعات للهيمنة على هذه الخطوط. 


طوق النجاة العربي 


تبحث سوريا الواهنة عن بر سكينة وأمان. بر لا يجد فيها مكسر عصى، بل بر يخرجها من العواصف، كي تركن لجراحها وتصالح نفسها وتلملم أشلاءها وتسير نحو التعافي. 

يشكل الخيار الاستراتيجي الذي اختطته المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي بالقطع الحاسم مع استراتيجيات تأبيد الصراعات العقائدية والمذهبية البينية في المشرق العربي، والانعطاف نحو تعزيز بناء الدولة الأمة والدولة الوطنية، واعتماد نهج بناء السلام والاستقرار والتنمية والازدهار الوطني والإقليمي، أقول هذا النهج هو رد حاسم على الانكشاف الاستراتيجي الإقليمي لسوريا، بل إنه الخيار الحيوي، والممر اجباري لسوريا نحو بر الأمان. 

ساعدت وتساعد مقاربة المملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج بشكل حيوي عملية التحول السلمي لسوريا الجديدة، مما يتيح احتضان هذا التحول، وامتلاك القدرة علي توجيهه والتأثير فيه بعيدا عن قوى التطرف العقائدي، وبما يؤمن تحييد العديد من عوامل الصراع الإقليمي والدولي على سوريا. 

وذاك طوق النجاة الوحيد لسوريا الجديدة

كما تعد التحولات المؤسسة التي يقودها سمو الأمير محمد بن سلمان ولي العهد المملكة العربية السعودية مصدر الهام حقيقي لسوريا الجديدة. ويعتبر نجاح إعادة التموضع الاستراتيجي للمملكة عامل دعم رئيسي يؤثر جوهريا في الخيارات المتاحة امام سوريا. 

إنه شاطئ الأمان الوحيد لسوريا.

 
 
 

تعليقات


© 2020 مجموعة إنسايت الاستشارية

  • LinkedIn Social Icon
  • Twitter Social Icon
bottom of page