هل يكتمل انقلاب ترامب على بوتين؟
- sara john
- 8 أغسطس
- 3 دقيقة قراءة

بعد انتهاء ولايته الأولى، أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب حملة لإعادة تشكيل بنية الحزب الجمهوري، عبر تهميش النخب التقليدية التي لم تكن على وفاق مع رؤيته السياسية، ما أدى إلى انسحاب نحو 700 شخصية من كبار رموز الحزب الاستراتيجية. وقد مكّنه هذا التحول من العودة مجددًا إلى البيت الأبيض. وعند توليه المنصب، وبفضل ما يتمتع به من كاريزما وثقة بالنفس، أحاط نفسه بعدد من المقرّبين الذين يفترضون مسبقًا أن خبراتهم ومعارفهم أقل من خبرته، الأمر الذي رسّخ هيمنته على القرار. في المقابل، عمد إيلون ماسك إلى تصفية طبقة كاملة من الكوادر العليا في الإدارات المركزية، فيما لا تزال 90% من المناصب المعينة شاغرة، ما ولّد انطباعًا قويًا بانعدام التوازن، ووحدانية القرار في الإدارة. وقد انعكس هذا الوضع بحالة من التوجس المتبادل بين الإدارة والمؤسسات الفيدرالية، ما أدى إلى تباطؤ واضح في الأداء والتنسيق، وظهور آثار سلبية داخليًا وخارجيًا. وفي ما يخص العلاقة مع روسيا _ بوتين، تحظى موسكو بدعم قوي من بعض المقربين في البيت الأبيض، وعلى رأسهم تولسي غابارد، التي عُرفت بمواقفها المناهضة للسياسات الأميركية تجاه الصين وكوريا الشمالية وإيران وسوريا وليبيا. وإلى جانبها يبرز ويتكوف وفانس؛ الأول صديق قديم لترامب، والثاني نائب الرئيس الأميركي. وينتمي كلاهما إلى تيار المحافظين الجدد، ولا يُخفيان تعاطفهما مع روسيا، بل إن بعض شخصيات هذا التيار ترى في روسيا حصنًا لحضارة "العرق الأبيض" في مواجهة الشرق والصين. في المقابل، جرى تهميش وزير الخارجية ماركو روبيو، الذي كان يُفترض أن يقود جهود التفاوض في الملفات الكبرى، وعلى رأسها عملية السلام بين روسيا وأوكرانيا، فيما أُسند الملف إلى ويتكوف. لكن سرعان ما تبيّن أن ويتكوف يجر قدميه في الملفات الحساسة، من غزة إلى إيران وأوكرانيا، وأنه يفتقر إلى المعرفة اللازمة لإدارتها. ولذلك، قرّر ترامب حصر دوره في الملف الروسي فقط، وتولى بنفسه مهمة التواصل مع الرئيس بوتين. ترامب، الذي اعتقد أنه يقدم لبوتين ما لا يستطيع أي رئيس أميركي آخر تقديمه، ظنّ أنه نجح في ليّ ذراع أوكرانيا وتحييد الموقف الأوروبي المتوجس من موسكو، فخاطب العالم بثقة الزعيم القادر، متحدّثًا عن اقتراب تحقيق السلام، ليس فقط عبر وسائل التواصل، بل في لقاءاته مع زعماء دوليين، مؤمنًا بأن أسلوبه هو مفتاح النجاح في العلاقات الدولية.
خلال شهري مايو ويونيو، أجرى ترامب خمس مكالمات هاتفية مطوّلة مع بوتين، وكان مقتنعًا بأن ما انتزعه من تنازلات من أوكرانيا وأوروبا سيفتح باب التفاهم مع روسيا. لكن في اليوم التالي لكل مكالمة، كانت موسكو تشنّ هجمات مكثفة بمئات الصواريخ والطائرات المسيّرة على الأراضي الأوكرانية، ما أوصل المفاوضات إلى حافة الانهيار.
في خضم ذلك، برزت شخصية مقرّبة من ترامب، وُلدت على الضفة الأخرى من الستار الحديدي – في تشيكيا، وتحمل نظرة تاريخية سلبية تجاه روسيا، تختلف تمامًا عن أنصارها في البيت الأبيض. هذه الشخصية ليست خبيرة في العلاقات الدولية، لكنها مسموعة الكلمة، والأهم أن ترامب لا يبدو راغبًا في إقصائها. إنها زوجته ميلانيا، التي رأت أن بوتين يتلاعب بحسن نية زوجها.
ثم جاءت المكالمة السادسة، التي كرّست لدى ترامب انطباعًا بأن بوتين لا يتصرّف بالحساسية ذاتها، وانتهت بغضب شديد، دفع ترامب لمنح بوتين مهلة خمسين يومًا لإنهاء الحرب. غير أن ترامب عاد، قبل أيام قليلة، ليختصر المهلة قائلًا: "الرسالة كانت واضحة منذ البداية"، مضيفًا: "كان فلاديمير بوتين يقول على الهاتف كلامًا لطيفًا، ثم يفعَل العكس تمامًا!".
وفي اليوم التالي للقاء مع ترامب، هدّد دميتري ميدفيديف باستخدام ما يُعرف بـ"اليد الميتة"، وهي العقيدة النووية الروسية ليوم القيامة، التي تنطلق تلقائيًا في حال تعرّض الدولة لخطر داهم. وتوالت بعدها سلسلة من الإجراءات التصعيدية؛ إذ ألغى ترامب المهلة، وبدأ باتخاذ خطوات ضد الاقتصاد الروسي، مستهدفًا قطاع الطاقة، وأساطيل الظل التي تُستخدم لتصدير النفط إلى الهند والصين.
كما أعلن ترامب عن نشر غواصتين مزودتين برؤوس نووية قبالة السواحل الروسية، لترد موسكو بإلغاء التزامها الأحادي بعدم نشر صواريخ نووية متوسطة وقصيرة المدى في أوروبا. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ كشف ترامب عن نيّته فرض رسوم جمركية تتراوح بين 50 و100% على جميع الواردات من روسيا، وأخرى بنفس النسبة على أي جهة أو فرد يتعامل تجاريًا مع موسكو.
يرى بعض الاستراتيجيين الأميركيين أن بوتين لن يوقف الحرب، ولن يشعر بالأمان، ما لم تستعد روسيا موقعها الاستراتيجي الذي كان للاتحاد السوفيتي سابقًا. ويستدلّ هؤلاء من استعداد موسكو للتفاوض حول أربعة من أصل خمسة بنود رئيسية، مستثنية الحرب الأوكرانية، ما يطرح سؤالًا أوروبيًا محوريًا: أين يجب رسم الخط الأحمر لروسيا؟
وقد أطلق هذا التوجس الأوروبي العميق عملية تحوّل واسعة لإعادة بناء الوحدة الأوروبية المتراخية، وهيكلة الموقف الاستراتيجي والعسكري. فاندفعت فرنسا وبريطانيا إلى تصدّر المشهد العسكري الأطلسي، بانتظار لحاق ألمانيا والسويد بهما لتحصين القارة. وتجلى الخوف الأوروبي من نوايا موسكو بوضوح حين أعلنت دول البلطيق الثلاث، إلى جانب بولندا، انسحابها من اتفاقية حظر الألغام الأرضية، وبدأت ببناء تحصينات معقّدة تشمل 600 مربض عسكري وحقول ألغام على طول حدودها مع أوكرانيا وروسيا.
إن ردة الفعل الحادة لترامب تعبّر عن جرح عميق في كبريائه، ولن يقبل بأن يبدو مخدوعًا أمام رفاقه الجمهوريين، الذين تعالت أصواتهم احتجاجًا على سير المفاوضات، ولا أمام الزعماء الدوليين المتربصين.
المشهد الدولي يتجه بسرعة نحو التصعيد، وسط استنفار أوروبي غير مسبوق، وجدل محتدم داخل البيت الأبيض حول تداعيات ما يجري. وفيما تتسارع الأحداث، يتكثف التساؤل بشأن الصراع الدائر في كواليس السلطة الأميركية، وفي أعماق عقل الرئيس ترامب.
ويبقى السؤال المحوري: هل من وسيط قادر على إنزال الطرفين الروسي والأميركي عن الشجرة؟ ومن سيفوز في لعبة "القط والفأر" داخل البيت الأبيض؟ يبدو أن هذه الحرب ستطول، وأن النزاع الروسي – الأوكراني سيظل الحلقة المركزية التي تحدد إيقاع النظام الدولي برمّته.
تعليقات